الملك الحسن الثاني: بين هيبة العرش وإرث متناقض — سيرة ونقد وموروث

 

واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة الأمريكية، ١٥ مارس ١٩٩٥ الحسن الثاني، ملك المغرب، يستمع إلى الرئيس كلينتون خلال مؤتمر صحفي قصير في حديقة الورود.

مقدمة تلائم مقامه

الراحل الملك الحسن الثاني (9 يوليو 1929 – 23 يوليو 1999) يظلُّ شخصية محورية في التاريخ الحديث للمغرب؛ باني دولةٍ مركزية وباعث على استقرار من جهة، ومتهم بسياسات قمعية من جهة أخرى. هذه المقالة تحاول أن ترسم صورة متوازنة عن الرجل: سياق صعوده، أحداث مفصلية في عهده مثل المسيرة الخضراء وسنوات الرصاص، ثم دوره على الساحة الدولية، وإرثه العمراني والثقافي. الهدف أن نقدّم مادة تاريخية وثقافية تستند إلى مراجع قديمة وموثوقة، وتبقى مقروءة بأسلوب بشري ومحترف. 📜


السياق التاريخي وبداية الحكم

تولى الحسن الثاني عرش المغرب بعد وفاة والده الملك محمد الخامس في عام 1961، واستمر في الحكم حتى وفاته عام 1999 — وهي فترة طويلة شهدت تحولات سياسية واجتماعية عميقة داخل المملكة. توليه العرش جاء في مناخ تحوّل بعد الاستقلال، حيث تحدّيات بناء الدولة الحديثة والتوازن بين الحراك الاجتماعي ومطالب الاستقرار. ويكيبيديا

ضريح محمد الخامس هو مبنى تاريخي يقع على الجانب المقابل لصومعة حسان في ساحة يعقوب المنصور في الرباط، المغرب و مدفون فيه ابنه الملك الراحل الحسن الثاني و كذلك ابنه الأصغر الأمير مولاي عبد الله

خلال السنوات الأولى شهدت البلاد محطات صعبة: محاولتا انقلاب عسكري (1971 و1972) أدتا إلى تشديد قبضة الدولة، كما شهدت تلك المرحلة نقاشات حول شكل الحكم والدستور والحرية السياسية. هذه الخلفية ساهمت في بلورة خطاب نظامي يبرّر تدابير الأمن والاستقرار باسم حماية الدولة والوحدة. jstor.org



المسيرة الخضراء (النقطة المحورية)

في 6 نوفمبر 1975 أطلق الحسن الثاني مبادرة المسيرة الخضراء، حركة مدنية كبيرة شارك فيها مئات الآلاف من المدنيين المغاربة للتوجه إلى الصحراء الإسبانية المُتنازع عليها آنذاك، في خطوة هدفت للضغط على إسبانيا وتسريع انسحابها. المسيرة اعتُبرت إنجازاً وطنياً في الرؤية الرسمية للمملكة، لكنها أيضاً فتحت ملف الصحراء الغربية وصراعات إقليمية طويلة لم تُحسم حتى اليوم. ويكيبيدياstanfordpress.typepad.com




سنوات الرصاص: القمع والذاكرة

لا يمكن الحديث عن عهد الحسن الثاني من دون ذكر ما عُرف بـ«سنوات الرصاص» — فترة امتدت، بالمعنى العام، بين ستينات القرن الماضي وبدايات التسعينات، اتسمت بقمع سياسي وسنوات من الاعتقالات والاختفاء القسري والتعذيب للمشتبه في معارضتهم، كما انبنت عليها سجلات لحالات تعذيب وسجون سرية مثل تاظمامرت (Tazmamart). كما شهدت تلك الفترة محاكمات قاسية وإجراءات استثنائية بحق خصوم النظام. بعد وفاة الحسن الثاني، انطلقت آليات لتدارك الذاكرة، منها إنشاء لجنة الإنصاف والمصالحة في 2004. ويكيبيدياictj.org



السياسة الخارجية والدبلوماسية

اتسمت سياسة الحسن الثاني الخارجية بالمرونة والتوازن: حافظ على علاقات قوية مع فرنسا والولايات المتحدة وأوروبا، وفي الوقت نفسه لعب دوراً إقليمياً فاعلاً في العالم العربي وإفريقيا، محاولاً أن يجعل المغرب منصة دبلوماسية وإقليمية. ملف الصحراء أدار علاقات مع جيران المغرب ومع الأمم المتحدة، كما أن للملك دوراً شخصياً في بعض مفاصل الدبلوماسية الوسيطة (سياسياً وأمنياً). هذا المزيج أعطى المغرب زخماً في المحافل الدولية، لكنه وضعه أيضاً في مواجهات دبلوماسية متكررة بسبب قضية الصحراء وحقوق الإنسان. ResearchGateويكيبيديا


الإرث العمراني والتنموي

من نافذة المدن تختبر الشعوب طموح زعمائها. تحت حكم الحسن الثاني ظهرت مشاريع عمرانية كبرى عززت المشهد الحضري: من أبرزها مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء (افتتح 1993) الذي مثل علامة معمارية وطنية وإحدى أكبر المساجد في العالم، نُفِّذ بمنهج يجمع حرفية مغربية وتقنيات حديثة. كما شهدت فترة حكمه استثمارات في بنية تحتية، طرق، جسور ومشروعات حضرية في الرباط والدار البيضاء ومراكز أخرى. هذه المشاريع شكّلت جزءاً من رؤية تجسيد دولة قوية ومركزية، وإن صاحبها نقاش عام حول تكاليفها وأولويات التنمية. ويكيبيدياTaylor & Francis


الثقافة والفكر

الملك الحسن الثاني كان راعياً رسمياً لعدد من المبادرات الثقافية، ودافع عن هوية مغربية تجمع بين التراث الأمازيغي والعربي الإسلامي والبعد المغربي الأندلسي. كان للدولة خلال عهده سياسات دعم الفنون والآداب ومراكز الثقافة، لكن القمع السياسي أعاق حرية التعبير أحياناً وقلّل من مساحة النشاط الثقافي المستقل. مع ذلك برزت في تلك الحقبة أعمال أدبية وفنية تناولت النقد والتوثيق، بعضُها أصبح مرجعاً للذاكرة الجماعية عن تلك السنوات. today.williams.edu


خاتمة مناسبة

الراحل الحسن الثاني شخصية مركبة: باني دولة ومؤسِّس مشاريع عملاقة، وفي المقابل مسؤول عن تصرفات أمنية وسياسية أليمة أثّرت على عشرات الآلاف من المواطنين والمجتمع المدني. قراءة متوازنة لتاريخه لا تلغي إنجازاته ولا تغفل أخطاءه؛ بل تدعو إلى استخلاص العبر لبناء مغرب يوازن بين السلطة والحرية، بين المشروع التنموي والعدالة الاجتماعية، وبين الاعتزاز بالهوية وفتح آفاق النقد البنّاء.

تعليقات